الإسلام والعقل


الإسلام والعقل 


كامل النجار
 
الحوار المتمدن-العدد: 3176 - 2010 / 11 / 5 - 12:46
 
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني 

كل الأديان والمعتقدات لا تخضع لحكم العقل لأنها "إيمان" والإيمان هو التصديق بما ليس عليه أي برهان، وبالتالي لا يحتاج الإنسان لإعمال عقله ليؤمن بشيء ما. ولكن المشكلة أن المسلمين تمسكوا بكلمتين وردتا في القرآن وضخموهما بدرجة مبالغ فيها ليثبتوا أن الإسلام هو الوحيد بين الأديان الذي يعترف بالعقل ويحث على استعماله. والكلمتان هما "يتفكرون" و "يعقلون". والقرآن استعمل الكلمتين استعمالاً يؤكد للمؤمن أن الله خلق العالم وجميع ما به، ثم يطلب منه أن يتفكر في تلك المخلوقات. القرآن لا يحث على التفكير الحقيقي الذي يقود إلى الشك، الذي ربما يقود إلى الإيمان الحقيقي أو إلى الإنكار. فالقرآن يقول (فمثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (الأعراف 176). فالقرآن يقول للمسلم إن الذين كذبوا بالإسلام مثل الكلب، يلهث إن حملت عليه ويلهث إن تركته، فهلا تفكرتم في ذلك؟ هل السيناريو هنا يستدعي أي تفكير؟ المؤمن آمن بالقرآن نتيجة التهديد بالسيف أو ورثه من أبويه ويجزم أنه كلام الله، والله يقول له إن الذين لم يعتنقوا الإسلام كالكلب، يلهث كل الوقت، فهل هناك حاجة لكي يتفكر ذلك المؤمن؟ وفيم يتفكر إن أراد التفكير؟ حوالي 99 بالمائة من المسلمين لا يعرفون أن الكلب لا يملك غدداً بالجلد تفرز العرق الذي يتبخر ويبرّد الجسم، ولذلك يلهث بلسانه الكبير حتى يتبخر الماء من اللسان ويبرد الجسد. ويحدث هذا فقط في البلاد الخارة مثل صحراء مكة، أما في البلاد الباردة فإن الكلب لا يلهث إلا إذا ركض لفترة طويلة وارتفعت حرارة جسمه. فهل كان في مقدور المؤمن أن يتفكر في لهاث الكلب؟ أم كان عليه أن يتفكر في التشبيه غير اللائق الذي استعمله رب القرآن للذين لا يؤمنون به، مع أنه قال لنا في مكان آخر (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الإسراء 70). فهل الذين كذبوا بآياته لا ينتمون إلى فصيلة بني آدم الذين كرّمهم على كثير ممن خلق، ولذلك شبههم بالكلب؟
ثم يقول لنا القرآن (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون) (البقرة 164). مرة أخرى المسلم يقرأ هذه الآية ولا يخامره شك في أنها كلام الله، وأن الله فعلاً خلق كل هذه الأشياء ويتحكم بها كيف يشاء، ويسمع من الشيوخ أن الله ينزل المطر، ونصلي له صلاة الاستسقاء إذا لم ينزله، والسفن التي تمخر عباب البحر بما ينفع الناس، من صنع الله. فهل هناك مجال للعقل هنا حتى يقول لنا القرآن (لقومٍ يعقلون)؟ الأمر هنا محسوم بالنسبة للذين آمنوا، القرآن يقول لهم إن الله يفعل كل هذه الأشياء، وهم يقولون: صدق الله العظيم، ففيم يتفكرون؟ لو كان القوم يعقلون لسألوا: وماذا عن الفلك التي تجري في البحر بما يضر الناس، مثل حاملات الطائرات، وحاملات صواريخ تماهوك التي ضربت بغداد من على بُعد مئات الأميال، هل هي آيات كذلك من آيات الله أم من آيات الشيطان؟ ولكن طبعاً لا أحد يسأل مثل هذا السؤال.
ودعونا نقرأ تعريف فقهاء الإسلام للعقل للذي يتفاخرون باحترامه: (القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى: "كذلك لنثبت به فؤادك" [الفرقان: 32] وقال: "ألم نشرح لك صدرك" [الشرح: 1] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" [ق: 37] أي عقل، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم.) (الجامع لأحكام القرآن، سورة البقرة، 7). فالقرآن يعبر بالقلب عن تلك الوظيفة المرتبطة بالدماغ في الرأس، والتي وحدها تختص بالتفكير والتدبر. والقرآن يستعمل ذلك التعبير لأن القلب هو محل العقل في قول الأكثرين. ولا يكفي رب القرآن أن يجعل القلب مكان التفكر، بل يزيد إليه وظيفة أخرى حينما يقول (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج 46). فالقلب هو أيضاً أصل البصر. فالمؤمن الذي يسير في الأرض ويرى الجبال والأشجار فيقول "سبحان الله الذي خلق هذا" يكون قد تفكر بقلبه الذي رأى الأشجار والجبال. وهذا هو مستوى التفكر الذي يدعو له القرآن، أي التوكيد على أن الله هو الذي خلق كل شيء، والذي لا يصل لهذه الدرجة من التفكير يصبح كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
وأصل كلمة العقل مشتقة من عَقَلَ، أي ربط، فنقول "عقل البعير"، وعقل الدواء البطن، أي أوقف الإمعاء عن إفراز الفضلات فأصاب الشخص الإمساك، وعقل القتيل: أدى ديته. فيبدو أن العقل العربي مرتبط بالمنع من الحركة.
يقول القنوجي في كتابه أبجد: (وعلوم العقل لا دخل لها في الشريعة، وإن العَاِلم بها لا يدخل في مفهوم {العلماء ورثة الأنبياء} والله تعالى قد أغنانا عن الكتب السابقة، التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام، بما أنزله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع فيه كل خير، واحتوى على كل فضيلة لفظاً ومعنىً وعلماً وحكمة وغير ذلك، فكيف نرجع إلى كتب الحكماء لا نعلم أذلك عنهم، من ذات أنفسهم، أو عن وحي إلى رسول منهم؟ وأول ما خرج ذلك في دولة بني العباس، وأكثر من أخرجه المأمون ووقع الاشتغال به، والمحن والفتن، وهلك به جماعة أوقعهم في الكفر والزندقة) (ج1/ 135) انتهى. يبدو أن مفهوم فقهاء الإسلام للعقل في ذلك الوقت أنه كان هشاً أوقعته ترجمة الكتب الإغريقية في زمن المأمون في الزندقة والكفر. ولذلك لا حاجة بالمسلم لقراءة كتب الحكماء لأنه لا يعلم إذا كانت كتبهم وحياً من الله أم من إنتاج عقولهم التي في قلوبهم. وربما تحمله على الزندقة.
يقول نفس المصدر عن العقل: (على أنه لو كان لا بد منه في العلم، لكان الصحابة كلهم ليسوا بعلماء، لأنهم لم يعرفوا علوم المعقول، وكذا من بعدهم من التابعين ومن تبعهم ولا قائل به في العالم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب}) (أبجد للقنوجي، ج1، الفصل الأول في تعريف العلم). إذاً لو كان العلم مرتبطاً بالعقل وليس بالشرع، لأصبح صحابة محمد كلهم غير علماء، وبما أن محمداً قال: خير القرون قرني والذي يليه، يصبح بالضرورة أن يكون أصحاب محمد علماء حتى وإن لم يقرءوا كتب الحكماء الناتجة عن العقل.
والعقل في الحقيقة ما هو إلا تراكم التجارب التي تمر بالشخص منذ ولادته إلى موته، يُضاف إليها ما تعلمه من الكتب أو من المعلم. ولكن بالنسبة لفقهاء الإسلام فإن العقل مهما ارتقى لا يحتاج صاحبه إلى قراءة أي شيء خلاف الشرع.
ولتوكيد أن العلوم الشرعية فوق مستوى العقل، يقول نفس المصدر (وإني أقول بعد هذا: إنه لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح، من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة، وإمرار الصفات كما جاءت، و رَدّ علم المشابه إلى الله - سبحانه -، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم، المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل، التي لا تعقل، ولا تثبت، إلا بمجرد الدعاوى والافتراء على العقل بما يطابق الهوى، ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الكتاب والسنة، فإنها حينئذ حديث خرافة، ولعبة لاعب.) انتهى. فبالنسبة للمسلم، كل ما لا يثبت بالكتاب والسنة يصبح دعاوى وافتراء على العقل، والعقل منه براء.
القواميس الإنكليزية تُعرّف العقل بأنه
Human consciousness manifested in thought, perception, emotions, will, and memory
(حالة الوعي في الإنسان المتمثلة في الفكر، والإدراك، والعواطف، والعزيمة، والذاكرة) أي هو القوة التي تمكنا من معرفة ماهية أنفسنا وما يحيط بنا بما تمليه علينا من حب الاستطلاع والسؤال وبما تثيره فينا من خوف ورهبة أو حتى استحسان يجعلنا نريد أن نعرف مصدر ذلك الشيء وماهيته، أي صفاته.
منذ البدء لم يحترم القرآن عقل المسلم، وفرض عليه الإيمان بما يقول به القرآن ومحمد دون أي أسئلة. يقول القرآن للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدى لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبدَ لكم) (المائدة 101). وبما أن السؤال هو القوة الدافعة للعقل للاكتشاف والمعرفة، فإن منع الناس من السؤال هو وأدٌ للعقل. ولذلك تعلم المسلمون منذ البداية التسليم بما يقوله لهم محمد دون أي نقاش أو أسئلة. ولتوكيد ذلك يقول لهم القرآن (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب 36). فإذا قضى محمد شيئاً أو قال بحكمٍ فليس للمسلم الخيار في استعمال عقله في محاولة لتبرير ذلك الأمر أو رفضه. هذا أمر إلهي يُقبل بدون أي نقاش.
ولذلك كانت الأفكار السائدة منذ بدء الرسالة تقول إن أفعال الإنسان كلها مقدرة له ومكتوبة في اللوح المحفوظ قبل أن يُخلق ذلك الإنسان، اعتماداً على الآية التي تقول (وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهاً) (الحديد 22). وكذلك (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (التوبة 51). وزاد أهل الحديث بعض الأحاديث التي قوّت من هذا الفكر، مثل الحديث الذي يقول (إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار) (المستدرك على الصحيحين للإمام النيسابوري، ج2، حديث 4001). وهذا يعني أن الإنسان مسيّر ولا خيار له في عمل الشر، ومع ذلك يعاقبه الله على أعماله، وبالطبع فإن العقل الحر لا يمكن أن يقبل بهذا المنطق. وقالوا كذلك إن القرآن كلام الله الأزلي، مثل الله ذاته، وهو غير مخلوق. وطبعاً هذه الأفكار كانت تتناقض مع كثير من آيات القرآن نفسه إلا أن جمهور فقهاء المسلمين تقبلوها بدون أي سؤال. وظهرت فِرق مثل الجبرية تقول إن الإنسان مجبر على فعل الخير والشر، وإن الله يمكنه أن يعاقب المؤمن الذي فعل خيراً طوال حياته، ويجزي المجرم الذي يفعل الشر طوال حياته، لا لسبب إلا لأنه قادر على فعل ذلك، وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
ثم جاء المعتزلة (فرسان العقل) وقالوا (معاذ الله ان يكون الله مسؤولاً عن الشر في هذا العالم، فالله لا يصدر عنه الا الخير لأنه الخير المحض. اما الشر فينتج من أعمال الإنسان، الذي هو وحده المسؤول عن أعماله، خيراً كانت أم شراً). وقالوا كذلك إن القرآن مخلوق ولا يمكن أن يكون أزلياً لأنه في هذه الحالة يشارك الله في الأزلية، وبالتالي تنتفي صفة الوحدانية عن الله. وأضافوا أن الله قد أرسل رسلاً قبل محمد وأوحى إليهم كتباً مقدسة فلا بد أن تلك الكتب، أي كلام الله بها، لا بد أن يكون مخلوقاً وإلا لصارت هناك عدة كتب تشارك الله في الأزلية. وبالتالي نرجع إلى تعددية الآلهة.
وبالطبع صدمت هذه الأفكار كثيراً من فقهاء الإسلام الذين لم يعتادوا على المنطق واستعمال العقل، فانشق أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة وكوّن فرقة الأشعرية التي تبنّت الخط المضاد للمعتزلة وأيدت الجبرية وغيرهم من الفرق التي تضع النقل فوق العقل. ومع أن المأمون والمعتصم والواثق ساندوا المعتزلة وأعلوا شأنهم على مدى ثلاثة عقود، فقد قويت شوكة الأشعرية والحنابلة مع اعتلاء المتوكل سدة الحكم، وانتهت صولة فرسان العقل الذين قُتل بعضهم وسُجن البعض الآخر وأُحرقت كتبهم.
ومع نهاية المعتزلة ركّز الفقهاء على النقل والتمحيص في القرآن والأحاديث لإظهار تفوق القرآن على الأديان الأخرى ولإثبات أنه من عند الله. (قال بعض الفضلاء: علم التفسير لا يتم إلا بأربع وعشرين علماً وعد الإمام الشافعي في مجلس الرشيد ثلاثاً وستين نوعاً من علوم القرآن. وقال بعض العلماء: العلوم المستخرجة من القرآن ثمانون علماً، ودون فيها كتب.
وقيل: إن العلوم الحكمية تتضمن خمسة عشر فناً إلا أن فروعها أكثر من خمسين، ثم قال: والمختار عندي أن عدد العلوم أكثر من أن يضبطه القلم) (أبجد، للقنوجي، ج2، ص 7). فبدل أن يعملوا بما جاء في القرآن من بعض الأخلاق المعروفة مثل النهي عن الكذب ومنع السرقة وعدم محاباة الحاكم وأكل أموال الناس بالباطل، شغل فقهاء الإسلام أنفسهم والرعية بالتنقيب في القرآن عن العلوم الخفية، وأحصوا عدد آياته وعدد حروفه، والمواضع التي يستحسن عندها البكاء عندما يصل إليها القاريء وما إلى ذلك.
وجاء الإمام الشافعي (767-820م) وقال عن فكر المعتزلة: (لأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه – ما عدا الشرك – خيرٌ له من أن ينظر في الكلام، أي الفلسفة) (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 69). فبالنسبة للشافعي، ارتكاب كل المعاصى أفضل من دراسة الفلسفة. ثم جاء الغزالي (حجة الإسلام) (1058-1111م) الذي كان من أهل الفلسفة أولاً ثم تصوّف ثم رجع إلى الأصولية، فألف كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي أنهى به علم الكلام (الفلسفة). وقد قال الإمام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال" لا نشك في كفرهما، أي الفارابي وابن سينا) (شذرات الذهب للدمشقي، ج2، ص 353). فالغزالي وكذلك ابن الجوزي وأغلب فقهاء الإسلام كفّروا الفلاسفة ومنعوا دراسة الفلسفة والمنطق لأنها تناقض الشريعة. وجاء بعد الغزالي عبد الرحمن بن الجوزي، الذي يقول عنه علي بن محمد المحمدي (محقق كتاب ابن الجوزي – أحكام النساء): (كان الفلاسفة من بين الذين كشف عن شبهاتهم، وأبطل معتقداتهم وبيّن أن سبب ضلالهم من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم، وتكلموا بمنتهى ظنونهم من غير الالتفات إلى الأنبياء.... ثم قال إن المتبعين للفلاسفة لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء، أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة؟) (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 69). فابن الجوزي يعتبر أن كل الفلاسفة ومن اتبعهم كفار.
وقد حاول الفيلسوف ابن رشد إنقاذ الفلسفة فكتب كتابه الشهير "تهافت التهافت" يفند فيه آراء الغزالي، ولكن للأسف لم يصمد العقل أمام معاول الأشعرية والغزالي وابن الجوزي، فانتهت صولة فرسان العقل وأهل الكلام، وحلّ النقل مكان العقل. واشتغل المسلمون بتوافه الأمور. نقل الغزالي عن بعضهم: (إن القرآن يحتوي سبعاً وسبعين ألف علم ومئتي علم، كذا ذكره في الباب الرابع من كتاب آداب التلاوة من أحياء العلوم. ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه ذكر في (قانون التأويل): إن علوم القرآن خمسون علماً وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة، ظهر وبطن وحد ومطلع.) انتهى. أي بالقرآن 77450 علماً (هنيئاً لزغلول النجار والشيخ الزنداني).
ومع موت العقل بدأ عصر الانحطاط في العالم الإسلامي، وركز الفقهاء على السند دون المتن في نقل الأحاديث وحتى القصص التاريخية. فإذا استوثقوا من السند عن فلان عن علان، لم يهمهم محتوى النص أو القصة مهما تعارض مع العقل. فنجد مثلاً (عن سفيان عن الاعمش عن أبي سفيان عن جابر قال جاءت الحمى تستأذن على النبي ( ص ) فقال من أنت قالت الحمى، قال أتعرفين أهل قباء، قالت نعم، قال اذهبي إليهم فذهبت إليهم فنالوا منها شدة فشكوا ذاك إلى رسول الله ( ص ) فقال إن شئتم دعوت الله فكشفها عنكم وإن شئتم كانت لكم كفارة وطهورا. قالوا تكون لنا كفارة وطهورا) (تاريخ بغداد، للبغدادي، ج3، ص 29). أي إنسان لديه ذرة من العقل لا يمكن أن يصدق أن الحمى، التي هي ارتفاع في درجة حرارة الجسم بغرض قتل المكروبات التي دخلت الجسم، يمكن أن تتكلم مع رسول الله وتعرف مكان أهل قباء. ولكن المهم عندهم أن السند كان قوياً.
وفي مثال آخر يقول الدمشقي، صاحب كتاب شذرات الذهب إن سعيد بن جبير قرأ القرآن كله في ركعة واحدة في البيت الحرام (شذرات الذهب، ج1، ص 108). فلو افترضنا أن قراءة الآية الواحدة تستغرق عشر ثواني، والقرآن به حوالي 6300 آية، نجد أن قراءة القرآن كله تستغرق 18 ساعة على الأقل. فهل يُعقل أن يقف هذا الشيخ العجوز ثمانية عشرة ساعة في ركعة واحدة؟ ألا يبول أو يشرب؟
يقول ابن قيم الجوزية عن اليهود في كتابه "هداية الحيارى" ص 18 (واما خَلَفَهم فهم قتلة الانبياء: قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الانبياء، حتى قتلوا في يوم سبعين نبياً واقاموا الاسواق في اخر النهار كانهم لم يصنعوا شيئاً). من أين أتوا بسبعين نبياً في يوم واحد ليقتلوهم، وأين كان الله، ألا يدافع عن أنبيائه؟
وبما أن العقل قد حنطه الأشعريون، حاول فقهاء الإسلام إيهام الناس بأنهم ما زالت لهم عقول، فجاءوا بما أسموه علم الجرح والتعديل، الذي يجرح ويُشرّح الرجال الذين رُووي عنهم الحديث. ولا نعلم كيف استطاعوا أن يثبتوا في القرن الثامن الميلادي أن فلان الذي عاش في القرن السادس كان ثقةً وعلينا أن نثق أنه سمع هذا الحديث من محمد. وإحقاقاً للحق فإن "علماء" الحديث لم يكونوا أول من فكر في هذه العنعنة والإسناد، فقد روى إفلاطون قصة عن شاب إغريقي يتحدث عن القارة المفقودة – أتلانتس: 

Plato (428-348 BC) in the Timaeus and Critias dialogs, Critias gives an account he heard when he was only ten from his ninety-year-old grandfather, who heard it from his father, who got it from Solon, who heard it from priests in Egypt.

وترجمتها أن الشاب كريتاس حكى أنه عندما كان في العاشرة من عمره سمع من جده الذي كان في التسعين من عمره، والذي بدوره سمع القصة من أبيه، الذي سمع القصة من المؤرخ سولون، الذي كان قد سمعها من كهنة مصر (من كتاب تاريخ الأخلاق، للمؤلف ساندرسون بيك). والقصة المذكورة تحكي أن قارة اتلانتس الاسطورية كانت تقع غرب مضيق جبل طارق، وكانت بها حضارة متقدمة جداً، أعظم مما عرفه اليونان في ذلك الوقت.
وما زال الغواصون والعلماء يبحثون عن أتلانتس منذ ظهور هذه القصة قبل أكثر من 2500 سنة، ولا أثر للقارة المفقودة. فهل عنعنة فقهاء الإسلام تختلف عن عنعنة إفلاطون عن ذلك الصبي؟ بالطبع لا يمكن أن يقبل العقل أن البخاري الذي عاش بأكثر من مائة وخمسين عاماً بعد وفاة محمد استطاع أن يوثق كل تلك الأحاديث ويزعم أن الشخص الذي أخبره بالحديث أقسم أنه سمع نفس الحديث من فلان الذي بدوره اقسم قبل أن يموت أنه سمع الحديث من علان الذي أصبح وقتها في عداد الموتى، وهكذا إلى أن وصل إلى ابي هريرة الذي أقسم أنه سمع الحديث من محمد. ويكفي أن نعرف تاريخ أبي هريرة لنحكم أنه كان انتفاعياً يؤلف الأحاديث من أجل أن يُدعى إلى موائد معاوية الدسمة. ولولا هذه الأحاديث غير العقلانية لما بُلينا بما يحدث الآن من تفجيرات، وقمع للنساء باسم السنة المطهرة التي لا تعدو أن تكون خيوط عنكبوت نسجها أبو هريرة وساعدته الحميراء.
وإذا تركنا الأحاديث العنكبوتية ونظرنا في القرآن نفسه، نجد تناقضاً يحتار فيه العقل. فمثلاً: نجد القرآن يقول عن الجنة (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا) ( الإنسان 13). ولكنه يرجع ويقول لنا: (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) (الإنسان 14). فإذا كانت الجنة ليس بها شمس، من أين جاءت الظلال الدانية؟ ألا تتكون الظلال من اصطدام أشعة الشمس بجسم بينها وبين الأرض أو الحائط؟ ولكن العقل لا مكان له بجانب آيات القرآن.
ويقول لنا (أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) (الصافات 22-23). فما هو ذنب الأزواج هنا، إذ ليس بالضرورة أن تكون زوجة الظالم ظالمة، وقد أعطانا القرآن مثلاً من زوجة فرعون عندما قالت (رب ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله) (التحريم 11). ويخبرنا القرآن كذلك (لا تزر وازرة وزر أخرى). فلماذا إذاً أمر ملائكته أن يحشروا الذين ظلموا وأزواجهم في جهنم؟
وهذه مجرد أمثلة بسيطة لما يعج به القرآن من تناقض. فهل هناك أي احترام للعقل في الإسلام، أم أن تعاليم الإسلام هي مجرد أوامر وليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيرة في أمرهم فيما قضى الله ورسوله؟

ادعاء الإسلاميين أن القرآن يحث على استعمال العقل، ادعاء أجوف لا سند له من الحقيقة، تماماً كادعائهم أن أول آية نزلت من القرآن كانت آية (إقرأ ) وبالتالي فإن القرآن يحض على العلم والقراءة. فإذا كان بعد 1400 سنة من نزول تلك الآية ما زال أكثر من ستين بالمائة من المسلمين أميين، ماذا حدث للحض على تعلم القراءة والعلم؟ ولنقدم لكم عينة من تفكر المسلمين واستعمالهم للعقل، ارجو قراءة هذه الفقرة من موقع فلسطيني اسمه "المعهد العربي" ويزعم أصحابه أنه "متخصص في عصرنة الحضارة الإسلامة وأخراجها من القيود التاريخية والمذهبية". في هذا الموقع المتنور كتب شخص يدعي أنه صحفي وكاتب، رداً على مقال لي بعنوان "إله السماء مهندس فاشل"، فكتب هذا الصحفي التنويري (هل تمعنت في خلقك في جسمك وشكلك وانفك وأذنك وطولك وشعرك ... هل تمعنت بالسماء والنجوم المؤلفة والكواكب والشمس والقمر ... هل تمعنت بالحيوانات والطيور ... هل نظرت الى الجبال والأشجار ... عيب عليك ان تقول هذا الكلام وادعوا الله لك بالهداية قبل فوات الأوان فإذا لم تهتد ادعوا الله أن يخزيك ويذلك في الدنيا والاخر) انتهى. وهذا هو تفكر المسلمين في آيات القرآن وفي خلق السموات والأرض.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل باع "هشام عبود" فيلم الصور الخاص بأبو نضال الى الموساد ؟؟؟ وما حقيقة تورط أو علم المخابرات الجزائرية بذلك ؟؟

عائلة بوتفليقة وعقدة الشعور بالنقص

هشام عبود في رده على سعد بوعقبة : لا انزل الى مستواه والعدالة هي من تفصل بيننا .